الجمعة، 12 ديسمبر 2014

المقاربة بالكفاءات مقاربة جديدة حقا أم مجرد وهم؟




أضخم دعاية تقوم عليها الإصلاحات (!؟) الجديدة هي الزعم بأنها تقوم على مقاربة جديدة تعرف بالمقاربة بالكفاءات ، تختلف عن المقاربة القديمة التي تعرف بالمقاربة بالأهداف. وإن من يقرأ ما يُكتَب عن هذا الجديد ، سواء في الوثائق الرسمية أو شبه الرسمية أو حتى في بعض الكتابات المنشورة في الصحف المستقلة ، يفهم أنها بديل جديد عن المقاربة القديمة وهذا ما يدعو إلى الاستنتاج أن النظام التربوي كان يقوم على مقاربة خاطئة ، وأن وزارة التربية، إذ تروِّج لجديدها هذا، إنما تقر بصورة ضمنية أنها تتدارك هذا الخطأ، مع أنها كانت حينهاتُروِّج للمقاربة القديمة بكل ما أوتيت من قدرة على الدعاية ، وذلك من خلال المراسلات والتعليمات وتوجيهات السادة المفتشين الذين طالما ركزوا على ضرورة تحديد الأهداف في المذكرة التقنية التي يستهدي بها المعلم والأستاذ في تقديم دروسه ، لكن لم تكن تلتفت إلى الشروط الموضوعية التي تساعد على النجاح في العملية التربوية. ولا ندري ، حين زعمتْ استبدالَ المقاربة الجديدة بالمقاربة القديمة ، إن كانت مدفوعة برغبة حقيقية في الإصلاح أم أنها مجرد تَلْهِيِّة للسادة المعلمين والأساتذة والمفتشين بمشاكل وهمية ، إذ أنها مدركة أنها لا تحتاج إلى توفير الشروط الموضوعية الضرورية لنجاح مشاريعها ، فليس هذا ما تفكر فيه ، إنما تحتاج إلى تبرير تغييراتها المتلاحقة. وليس أفضل لهذا الغرض من تبريرها بالعيوب المسجلة في تطبيق طرائق  دون توفير أبسط شروط نجاحها. وإني ، إذ أصِفُ هذه المشاكل بالوهمية ، إنما أنطلق من نظرة نقدية إلى ما يُرَوَّجُ له ، ومن هذا المنطلق فإني  أتساءل:
هل فعلا هناك فرق بين مفهوم الهدف ومفهوم الكفاءة ؟ أم أن الفرق بينهما كالفرق بين اللفظ ومرادفه ؟ وإذا كان هناك فرق حقيقي بينهما فهل هو فرق يتعذَّر معه الجمع بينهما ؟ أم أنه فرق جزئي كالفرق بين الجزء والكل ؟
سأحاول الإجابة عن هذه التساؤلات متحريا المنطق والموضوعية ما استطعت رجاءَ أن تكون محاولتي مساهمة متواضعة في إثارة النقاش حول الموضوع.
من أهم ما قرأت في هذا الموضوع بحث للأستاذ "خير الدين هنّي" بعنوان: "قراءة متأنية في الإصلاحات التربوية في ثوبها الجديد" نُشِرَ في يومية الشروق في ثلاث حلقات من 10 إلى 12 /09/ 2005 .وقد أشار فيه إلى الغموض البَيِّن في صياغة الكفاءات المستهدفة ، وانعكس هذا الغموض على فهم المعلمين حيث صار من الصعب التمييز بين الكفاءات والأهداف. وقد حاول توضيح الفرق بينهما ، لكن صدقوني لقد حاولت فهم توضيحه دون جدوى. ولعلّها الفقرة الوحيدة في بحثه التي لم أفهمها ، وبهذا فإني أؤكد معه على هذا الغموض. ومصدر الغموض في نظري ليس في قصور عقلي وعقل المعلمين وإنما في "الإيهام بوجود فرق بين المقاربتين بحيث تأتي المقاربة بالكفاءات بديلا عن المقاربة بالأهداف". غير أن التنَبُّه لهذا الإيهام قلما يخطر على الذهن لأن النفوس مهيأة لقبول ما يوحي به الشعار ، وهو الإصلاحات ، وحامل اللواء ، وهو ، الوزارة. فالمعلم والأستاذ في العادة يأخذ هذه المزاعم مأخذ الجِدّ ، لأنه لا يتصور أن يبلغ الاستخفاف بعقله حد محاولة إقناعه بوجود شيء وهميٍّ ، ويصعب على ظنه أن تكون الملتقيات والندوات التي يحضرها تحت إشراف السيد المفتش لغرض شرح الإصلاحات ، إنما هي مجرد تَلْهِيَةٍ عن المشاكل الحقيقية ، على حساب المهمة الأساسية للأستاذ والشروط الموضوعية لنجاحه فيها(5). وإذن فإن حسن ظن المعلم والأستاذ في مسؤوليه المباشرين وغير المباشرين يجعله يتقبل ولو مبدئيا فكرة أن هناك جديدا جاءت به الوزارة.
لكن لنستعرض فقرات من بعض النصوص الرسمية وشبه الرسمية ، ونقرأها قراءة متأنية لنرى إن كان في الإستراتيجية الجديدةِ جديدٌ.
فمن النصوص شبه الرسمية "الكتاب السنوي" الذي يعده المركز الوطني للوثائق التربوية ، التابع لوزارة التربية الوطنية ، العدد الخاص بسنة 2003 حيث جاء في ص 10و11 مقارنة بين المقاربة القديمة (بالأهداف) والمقاربة الجديدة (بالكفاءات):
"في المقاربة السابقة (التعليم بالأهداف) نجد:
الغاية ، المرمى ، الأهداف العامة ، الأهداف الخاصة ، الأهداف الإجرائية.
في المقاربة الجديدة (التعليم بالكفاءات) نجد:
الغاية ، المرمى ، الكفاءة الختامية (كفاءة نهائية) ، الهدف الختامي المندمج ، الكفاءة القاعدية ، الهدف التعَلُّمي"
نلاحظ في هذه المقاربة شبه تطابق بين المقاربتين ، والاختلاف بينهما إما في تفصيل مستويات المقاربة الثانية. فالأولى ذات خمسة مستويات بينما الثانية ذات ستة مستويات. أو في استبدال لفظ بآخر كاستعمال كفاءة ختامية ، كفاءة قاعدية ، بدل هدف. ذلك أننا إذا رجعنا إلى الصيغ المستعملة لتحديد بعض الكفاءات سنجد أنها تتضمن معنى الهدف أو الغاية.
فكتاب الجديد في التربية المدنية للسنة الثالثة من التعليم الابتدائي ط - أولى 2005/2006 مقسم  إلى وحدات ؛ كل وحدة تُحدَّدُ فيها الكفاءةُ الخاصةُ مسبوقة بعبارة: لتكون قادرا على...
1.      لتكون قادرا على: أن تُعرِّف وطنك لغيرك...               (ص6)
2.      لتكون قادرا على: الانضباط في الحياة المدرسية              (ص24)
3.      لتكون قادرا على: تقبل الآخر والتعايش معه                  (ص48)
وهكذا تتكرر عبارة "لتكون قادرا على" مع كل وحدة من الوحدات الثلاثة والعشرين.
وفي كتاب المنهاج الخاص بالسنة الثانية ثانوي آ.ف مادة الفلسفة نجد تحديدا للكفاءات الختامية كما يلي:
الكفاءة الختامية الأولى: يسعى المتعلم إلى التحكم في آليات الفكر النسقي.
الكفاءة الختامية الثانية: يسعى إلى خوض تجارب فعلية في طرح القضايا الفلسفية وفهمها ومن ثمة ،  الإرتقاء إلى محاولة حلها. (ص6و7).
فصيغة لتكون: تنحل إلى لام التعليل والفعل المضارع "تكون" الذي يفيد المستقبل. ولام التعليل تفيد أن الوحدة التعليمية عِلة والقدرة التي سيحصل عليها معلول. وإذا استعملنا مصطلح الوسيلة والهدف نقول أن الوحدة التعليمية وسيلة والكفاءة المراد اكتسابها هدف.
ونفس المعنى يصدق على عبارة: يسعى..إلى.. فيسعى بصيغة المضارع تفيد المستقبل ، وما يراد الوصول إليه مستقبلا يسمى هدفا أو غاية.
وخذ عبارة أخرى: ".. التوجه الجديد يعني.. ويعني كذلك أن المناهج الجديدة يجب أن تحدد وتصف الكفاءات التي يجب أن يكتسبها المتعلمون بعد انتهائهم من مرحلة دراسية معينة". ن.م.ص26.
فالكفاءات التي يجب اكتسابها حينما نخطط لها تربويا فمعنى هذا أننا جعلناها هدفا نريد بلوغه ، فأي فرق إذن بين الكفاءة والهدف سوى أن الكفاءة هي المُكْتَسَب الذي نهدف إلى تحقيقه والهدف هو الكفاءة المراد تحقيقها. فهناك عموم وخصوص ، فالكفاءة هدف محدد ، والهدف وصف للكفاءة من حيث أنها شيء يجب أن نبلغه ونستعمل لبلوغه وسائل معينة وطرائق. وهكذا يمكن تعريف كل منهما بالآخر. وبسبب عدم وضوح هذه العلاقات في الأذهان نصادف بعض الاضطرابات التعبيرية فيعبَّر عن الكفاءة بالهدف وعن الهدف بالكفاءة ، ومثاله ما جاء في كتاب المنهاج الخاص بالسنة الثانية ثانوي أ.ف مادة الفلسفة ص4 هامش1 ما يلي:
"...يضعون (أي واضعي البرامج) الأهداف المرغوبة أمام أنظارهم ويصوغونها في لغة الكفاءات ويقومون من ثمة باختيار مواد الدراسة والتجارب التي من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف." فهذه الفقرة نص صريح في استعمال الكفاءات والأهداف هنا كمترادفين.
أكتفي بهذه الشواهد وأدعو زملائي المهتمين بشؤون التربية والتعليم أن يستقصوا هذه الفكرة ليتأكدوا بأنفسهم ، فلعلي وهِمتُ فيما زعمتُ..وفوق كل ذي علم عليم.
غير أني مع ذلك فهمت من هذه المقاربة ، حسب شروح المُنَظِّرين لها عندنا ، معاني أخرى يمكن تلخيصها فيما يلي قبل التعليق عليها.
إليكموها:
1.      إن هذه المقاربة أسلوب جديد في التربية والتعليم يتميز بخصائص منها:
أ ‌-  المتعلم هو مركز العملية التعليمية/التعلُّمية.
ب‌- الانطلاق من وضعيات مشكلة مستقاة من الحياة.
ت‌- اعتماد اندماج المفاهيم والمعارف الجديدة بدل الأسلوب التراكمي للمعارف(6).
2.  أن هذه المقاربة تقوم على نظرة نفعية ومن هنا جاء ربط التعليم بالعمل وبالحياة ، فأُعطِي للكفاءة التعليمية مفهوم اقتصادي حيث يُقصَد بها الحصول على أكبر عائد ممكن بأقل جهد ومال وأسرع وقت. وتفصيلا لهذا المعنى فإن الكفاءة في التعليم هي مدى قدرة النظام التعليمي على تحقيق الأهداف المنشودة في الجوانب الأربعة للكفاءة وهي:
أ‌-  الكفاءة الداخلية: هي مدى قدرته على القيام بالأدوار المنوطة به والتي تشترك فيها جميع العناصر التي تباشر العملية التربوية.
ب‌- الكفاءة الخارجية: هي قدرة النظام التعليمي على تحقيق أهداف المجتمع من خلال ما يقدمه الخِرّيجون ، وما يثبتون به جدارتهم كمواطنين صالحين ونافعين.
ت‌- الكفاءة الكمية: ومؤشرها هو عدد الناجحين ـ حالات الإعادة ـ حالات التسرب.
ث‌- الكفاءة النوعية: ويُقصَد بها نوعية التلميذ المتخرج. والمؤشر ليس هو نجاحه في الامتحان إنما في نوعية البرامج التي درسها ونوعية المدرِّسين(7).
à       التعليق: تعليقا على هاتين الفكرتين أقول: فيما يتعلق بخاصية أن المتعلم هو مركز العملية التعليمية/التعلُّمية (التربوية).
أقول: إذا كان المقصود بها هو حملُ التلميذ على المساهمة بنفسه في العملية التربوية (التعليمية/التعلُّمية) ، (حسب المصطلح الجديد) ، فإنها ليست جديدة. ذلك أننا لو رجعنا إلى البرامج القديمة ، القائمة على المقاربة بالأهداف ، وإلى توجيهات السادة المفتشين في الندوات التربوية والملتقيات ، نجد تركيزا على الطريقة الحوارية التي تجعل التلميذ يصل بنفسه إلى المعرفة المراد الوصول إليها عن طريق الحوار ، وليس عن طريق التلقين. ومن النشاطات التي يقوم بها التلميذ في هذا السياق أن يطالبه الأستاذ بتحضير الدرس ، وأن يُكلَّف بواجبات منزلية ، وأن يُكلَّف بإنجاز بحوث. وفيما يتعلق بالانطلاق من وضعيات مشكلة مستقاة من الواقع ، فهذه أيضا ليست جديدة ، على الأقل في مادة الفلسفة ، ففي برنامج الفلسفة/السنتان 2 و 3 ثانوي لسنة 1993 وسنة1995 جاء في طريقة التدريس: "انطلاقا من وقائع مأخوذة من محيط التلميذ يبدأ التساؤل بغية دفعه إلى تجريد تصورات ليعمل على تحويلها إلى إشكاليات"(8).
فإذا كان فيها جديد فهو ضرب من التعميم على سائر مواد الدراسة.
وقد حاول المنظِّرون أن يعطونا مثالا عن كيفية تحقيق هذه الخاصية في التدريس فاقترحوا علينا ما يلي: "...أما كيف يستطيع المدرس بناء وضعية مشكل ، فإنه يستطيع بناء هذه الوضعية بطرح الأسئلة الآتية على نفسه:
ـ ما هي معارف التلميذ التي يجب زعزعتها بوضعية/مشكل ؟
ـ هل بإمكان التلميذ الشروع في حل المشكل ؟
ـ ما هي مختلف فترات النشاط ؟
ـ ما هو دوره أثناء مختلف فترات النشاط ؟
ـ كيف يُسَيِّر القسمَ ؟
ولتوضيح الممارسة التعليمية الجديدة ، يمكن للمدرِّس أن يقترح في عدة أحيان وضعيات متنوعة لأعمال أفواج، أنشطة جماعية للقسم ، لحظات عمل فردية ، بحيث تدفع التلميذ إلى أن يكون فاعلا: يقترح حلولا ويقارنها مع زملائه ، ويدافع عن حلوله ويعدلها إذا لزم الأمر...إلخ ويكون دور المدرس هو تسيير النقاش داخل القسم.."
أقول إن هذا التوضيح ضرب من الإغراق في العموميات والمجردات ، وإن النظر شيء والتطبيق شيء آخر أيها الأستاذان(9).
قد يقال أن المهم هو المسمى وليس الاسم ؛ فالمسمى مقاربةً بالأهداف طريقةٌ في التعليم تختلف عن الطريقة الجديدة ، وهي المقاربة بالكفاءات ، ببعض الخصائص وبعض الأسس ، وهذا هو أساس التمييز بينهما وليس التسمية. وهذا اعتراضٌ مقبول.
صحيح أن المقاربتين مختلفتان من حيث الخصائص والأسس. فالمقاربة بالأهداف مستوحاة من المدرسة السلوكية التي تنظر إلى الطفل على أنه يولد بسلوك أولي ، بدليل استجابة الجنين في بطن أمه لبعض المثيرات ، والمطلوب في العملية التربوية ، حسب هذه النظرة ، هو تنمية هذا السلوك الأولي وتطويره إلى أن يصبح سلوكا حسب الهدف المراد تحقيقه ، وبناء عليه فإن ما ينبغي فعله في العملية التربوية هو تنمية قدرات الطفل بمحتويات معرفية. هذه المحتويات المعرفية ليست سوى الأهداف التي يراد تحقيقها. ويلزم عن هذه النظرة مجموعة من الخصائص وهي أن المعلم بمثابة مدرب ، وأن المتعلم رَادٌّ للفعل ، تماشيا مع التفسير الآلي للسلوك ، حسب المدرسة السلوكية ، إذ ينحل إلى مثير واستجابة، وأن المحتويات المعرفية تتحول إلى وسائل لتحقيق أهداف... أما المقاربة بالكفاءات فمستوحاة من المدرسة البنائية التي لا تلغي فكرة المثير والاستجابة في السلوك  إنما تضيف إليها فكرة جديدة وهي أنه بين المثير والاستجابة تحدث تصورات في الذهن ، وأن المطلوب في التربية أن نؤسس عملية التعلم على هذه التصورات ، حيث نقوم بهدم تصورات قديمة وإيجاد تصورات جديدة  ومن هنا جاءت فكرة الوضعيات المشكلة. ويترتب عن هذه المقاربة بعض الخصائص في أسلوب التعليم منها أن الطفل ليس مجرد راد للفعل ، بل هو فاعل ، وأن المعلم ليس مدربا بل منشط أو موجه أو مستشار يقوم بابتكار وضعيات مشكلة ، وهذه هي مهمته الأساسية. هذه بعض الاختلافات بين المقاربتين ، وهي اختلافات تؤكد بالفعل أنهما طريقتان متمايزتان ؛ لكن مع ذلك نلاحظ نوعا من التضليل في الدعاية للمقاربة بالكفاءات وهو محاولة الإيهام بأنها طريقة جديدة تلغي الطريقة القديمة. وهذا غير صحيح بدليل أن مفهوم الهدف يبقى ملازما للعملية التربوية ؛ بل لا يمكن تصور أي عمل واعٍ خاليا من الهدف ، فهذا ما يميز السلوك الإنساني عن السلوك الحيواني. والتقدير الدقيق لهذه المقاربة هو أنها ليست ثورة على القديم ، بل هي إضافة جديدة تساهم في تطويره دون أن تلغيه ، وفي هذه الحالة يمكن مناقشتها من حيث أنها مناسبة أو غير مناسبة. وعلى هذا من حقنا أن نتساءل: هل هذه المقاربة مستوحاة من الواقع الجزائري أم أنها مستوحاة من واقع أجنبي ؟ وإذا كانت مستوحاة من الواقع الأجنبي فهل من المناسب أن نطبقها بصورة آلية أم بطريقة واعية ؟ وهل نطبقها بصورة عامة وشاملة أم ينبغي أن نخضعها للتجريب ؟ وهناك أسئلة عديدة يمكن طرحها والبحث عن أجوبة مقنعة لها قبل المباشرة بتطبيقها.
فيما يخصني يمكنني أن أجيب عن بعض هذه التساؤلات ، ومنها أن هذه المقاربة ليست مستوحاة من واقعنا الجزائري بل هي مستوردة من تجارب غربية أمريكية ثم أوروبية. والمشكلة في نظري ليست في عملية الاستيراد في حد ذاتها ، بل إن العاقل مستعد لأن يأخذ من غيره ويستفيد منه حتى وإن كان عدوَّهُ ، لكن بوعي وتبصر ، لأن الحكمة ضالة المؤمن أَنَّى وجدها فهو أحق بها. وليس هذا حال منظومتنا التربوية ، لأنها لم تفعل سوى أنها استوردت هذه الطريقة كما تُسْتَوْرَدُ البضائع الجاهزة للاستهلاك. وشرعت وزارتنا في تطبيقها فورا بقرار فوقي دون أن تخضع للدراسة والتجربة ، كما تقضي المنهجية العلمية ، والسياسة الرشيدة ؛ وطبقتها بصورة شاملة لجميع مراحل التعليم وبصورة معممة على جميع المؤسسات. وهي بهذه الطريقة إنما قامت بعملية تقليد آلي ومشوه ، إذ أنها أخذت الطريقة دون اعتبارها للكيفية التي جُرِّبَتْ بها في الموطن الذي ولدت فيه. وبالرجوع إلى بداية اعتمادها نجد انه: "شرع في تطبيق هذا الأسلوب [أي أسلوب التعلم بحل المشكلات ، وهو المطبق في المقاربة بالكفاءات] في بعض الجامعات بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا في أواخر الستينات ثم انتقل إلى بلجيكا وسيوسرا حيث شاع توظيفه في كليات الطب."(10)
نلاحظ إذن أن هذه الطريقة لم تُطبق في موطن نشأتها بصورة شاملة وعامة على جميع المستويات وفي جميع المؤسسات التعليمية ، بل طُبِّقت على المستوى الجامعي في أوروبا وأمريكا على حد سواء ، ثم طُبِّقت في بعض الجامعات والكليات وليست في كلها. وهذا أمر طبيعي لأنها الطريقة المناسبة للبحث ، ولئن جاز أن نجعل البحث وسيلة من وسائل التعلم ، فمن غير المعقول أن يكون هو الوسيلة الوحيدة في التعليم. أما عندنا في الجزائر فقد طبقت فورا ، في الابتدائي وفي المتوسط وفي الثانوي وفي الجامعي ، وفي جميع المؤسسات التربوية والتعليمية. وكان على الوزارة ، لو كان لها نية جادة في الإصلاح ، أن تستفيد من هذه التجارب بسلوك الطريقة العلمية في تجريب أي فكرة جديدة وهي الطريقة التي اعتمدتها المدرسة الأساسية في السبعينيات حيث اتخذت من بعض المؤسسات التربوية في بعض المدن كنماذج تطبيقية قبل أن تعمم التجربة في الثمانينيات. وقبل هذا كان عليها أن تفتح نقاشا شفافا مع أصحاب الشأن الحقيقيين وهم المعلمون والأساتذة والمفتشون بالدرجة الأولى ، مع إشراك الأولياء والطبقة المثقفة في النقاش ، لكنها لم تفعل لا هذا ولا ذاك. ويبدو أنها تخلت عن طريقة الاستشارة الموسعة والنقاش الشفاف لأنها طريقة غير مضمونة في تمرير ما تريد تمريره من سياسات ، تُسَخَّرُ لها مختلف القطاعات ، بما فيها قطاع التربية ، حيث يُسْتَعْمَلُ كأداة لخدمة أهداف وغايات لا علاقة لها بالتربية والتعليم. ومن الشواهد التي تؤكد ما أقول أن ملف الإصلاح التربوي طُرِح للنقاش سنة1991 ، حيث أعدّت وزارة التربية ورقة عمل وأرسلتها إلى كل المؤسسات التربوية ليناقشها الأساتذة والمعلمون ، وكانت كل مؤسسة تعد خلاصة عن الموضوع ، ثم تُناقَشُ هذه الخلاصاتُ على المستوى الولائي ثم على المستوى الوطني. وكان هذا العمل أشبه بالمؤتمرات التي تجريها الجمعيات والأحزاب والتي تنبثق عنها القرارات المصيرية والقيادة الجديدة. وأذكر أن الملف طرح للنقاش ثانية وفي نفس السنة الدراسية ، لأن نتائج المناقشة لم تعجب أصحاب القرار ، [وليس بالضرورة أن يكون الوزير هو صاحب القرار] ، وجاءت نتيجة المناقشة الثانية غير مرضية لأصحاب القرار ، فجُمِّد ملف الإصلاح. وقد كان ذلك في عهد وزير التربية "أحمد بن محمد" ، الذي دُبِّرَتْ له مؤامرةُ تَسْريب موضوع امتحان بكالوريا 1992 ، والذي كان سببا في استقالته ، وجيء بدلا عنه ب"أحمد جبار" الذي قام بمهمته في تخريب الأساس المكين الذي تقوم عليه العلاقة بين الأستاذ والتلميذ ، وهي في أساسها علاقة روحية تقوم على رعاية الأستاذ لمصلحة التلميذ وحنوه عليه وحرصه على تربيته كما يحرص على أولاده ، وفي مقابل هذا على التلميذ أن يحترم أستاذه ويوقره. هذا الأساس قد وَجَّهَ له هذا "الجبار" ضربة قاضية حينما خاطب التلاميذ والأولياء من على شاشة التلفزة الوطنية وهو يهدد ويتوعد الأساتذة والمعلمين ، وفي نفس الوقت يُحَرِّضُ التلاميذ والأولياء عليهم قائلا: "لو بلغني أن أستاذا يضرب تلميذا فسأوقفه وعلى كل من تعرض للضرب من التلاميذ أن يبلغني هو أو وليه وسيرى ماذا أفعل له". ليس هذا ما قاله حرفيا  لكن هذا هو المعنى الذي أراده وزاد معه طريقة التلويح بأصبعه وقبضة يده وهو في غاية الغضب والانفعال. وهكذا نجح هذا الأستاذ المستعار من إحدى الجامعات الفرنسية في تنبيه التلميذ المغبون إلى أن عدوه الحقيقي ليس هو الجهل إنما عدوه هو أستاذه ، ومن حينها أخذت العلاقة بين الأستاذ والتلميذ في مدرستنا تتدهور بوتيرة متسارعة حتى تحولت المدرسة إلى حلبة صراع بين التلميذ وأستاذه وبين التلاميذ فيما بينهم. وأخبار العنف في مدارسنا والاعتداءات على الأستاذ لم تعد غريبة بل أصبحت مألوفة وطبيعية.
وفيما يخص الفكرة الثانية ، أي كونها تقوم على نظرة نفعية ومن هنا جاء ربط التعليم بالعمل وبالحياة ، فإن هذه المقاربة إن هي إلاّ تغير في معيار تقدير المعرفة ، حيث لم تعد المعرفة مطلوبة لذاتها، إنما لغرض عملي. وبمقدار تحقق هذا الغرض يتحدد مستوى كفاءة النظام التربوي. وهذا أمر لا اعتراض عليه مبدئيا ، بل هو من مستلزمات النجاعة في النظام التربوي ، غير أن لديَّ ملاحظتين:

à       الملاحظة الأولى:

أن هذا المعنى ليس جزءً من العملية التربوية ، أو التعليمية/التعلمية ، إنما هو عبارة عن تقدير أو تقييم للمنظومة التربوية من حيث أنها منظومة ناجحة لأنها حققت الأهداف التي وضعت من أجلها ، أم أنها فاشلة. ويؤكد هذا المعنى ما جاء في نفس المرجع من تعريف للكفاءة "..يُقصَد بالكفاءة في التعليم مدى قدرة النظام التعليمي على تحقيق الأهداف المنشودة منه في الجوانب الأربعة للكفاءة.. كما جاء في دليل أستاذ الفلسفة/س2 آداب وفلسفة لسنة 2006/2007 تأكيد على تحويل المعرفة إلى سلوكات عملية نافعة. وفي هذا السياق جاء التمييز بين الكفاءة competence  والقدرة capacite ، وهذا حسب المدرسة السلوكية. مع التأكيد على وجود تكامل بين المفهومين(ر.ص21 ـ23 ). وإذا كانت هذه المقاربة ، إنما هي مجرد تغير في معيار تقدير المعرفة ، فإنه لا ينبغي أن تُقابَل بالمقاربة بالأهداف لأنها ليست طريقة جديدة في مقابل طريقة قديمة. وفي هذه الحالة فإن الغرض المُفترض من وراء هذه التغييرات هو العمل على إعادة تأهيل المنظومة التربوية حتى تبلغ أو تقترب على الأقل من مستوى الكفاءة المطلوبة ، ولا يكون ذلك بتغيير المحتويات الثقافية بغرض تمييعها حتى تتلاءم مع المتغيرات الدولية ، حسب مزاعمهم ، إنما يكون بتوفير الشروط الموضوعية التي تسمح لكل فاعل في التربية أن يؤدي عمله بكفاءة ، حينها ، وحينها فقط يمكن للمسؤول الأعلى أن يحاسب المسؤول الأدنى عن ضعف المردود التربوي. وعلى سبيل الإشارة فقط نتساءل:
 ـ هل يُعقل أن نتحدث عن مردود تربوي مع أقسام يقترب عدد أفراد القسم فيها من الخمسين، وفي حالات يتجاوز الخمسين.
ـ هل يُعقل أن نتحدث عن مردود تربوي مع حجرات مخابر ليس فيها وسائل إجراء التجارب والتطبيقات.
 ـ هل يُعقل أن نتحدَّث عن مردود تربوي مع برامج مكثَّفة، علاوة على أنها نظرية، مع أن المُنظِّرين لهذه الإصلاحات يؤكدون على تخفيف هذه البرامج(11).
 ـ هل يُعقل أن نتحدث عن مردود تربوي مع تكثيف أعمال الأستاذ وإرهاقه بتوقيت يزيد عن النصاب المحدد ، وبأعمال يمكن لغيره من الأعوان أن يقوموا بها ، وكل هذا على حساب مهمته الأساسية.
 ـ هل يُعقل أن نتحدث عن مردود تربوي أضعف طرف فيه وأَهْوَنُه هو الأستاذ. نَعم..الأستاذ الذي كان عظيمَ القَدْرِ فأصبح عَدِيمَهُ !
لقد كان الأستاذ مُصنفا مع الطبقة المُرَفَّهة ، لأن أجرته كانت تكفيه وتزيد بما يُمكنه من اقتناء الكثير من الكماليات. وكان الأستاذ محترما من المجتمع ومهابا من التلميذ. أما اليوم فأصبح الأستاذ مصنفا مع طبقة الفقراء وأحيانا مع الطبقة الواقعة تحت عتبة خط الفقر. وأما احترامه و هيبته فقد بلغ حظُّه منهما الحضيض. ولقد أصبح الأستاذ هو من يخاف من تلامذته ، ولم تَعُد الاعتداءات التي يذهب ضحيتَها من الأمور النادرة ، بل أصبحت عادية ، ومع ذلك فأقصى ما تستطيع المؤسسة التربوية أن تفعله أمام هذه الاعتداءات أن تحيل التلميذ المعتدي على أستاذه ، على المجلس التأديبي الذي يقرر فصله من متوسطته أو ثانويته ، فتُعَقِّبُ المديرية على هذا القرار بتحويله من مؤسسته الأصلية إلى مؤسسة أخرى فينتقل إليها بطلا مهابا من أساتذته الجدد وقدوة للتلاميذ تُحْتذى.
هذه التساؤلات الاستنكارية ليست مبالغات مبنية على مجرد تَوَهُّمات، إنما هي حقائق مبنية على وقائع يمكن سوق شواهد منها عينية بأسماء المؤسسات والتلاميذ والسنة الدراسية ووقائع حوادث الاعتداء والإجراءات ..إلخ والحديث في هذه الظاهرة لا تسعه المجلدات فلا نتحدث رجاءً عن المردود في منظومتنا التربوية.  "أفَنَزْرَع بونقّار ونطلب النوار."     
à       الملاحظة الثانية: هل يمكن إسقاط مفهوم الكفاءة الاقتصادية على موضوع التربية والتعليم وتطبيقه بحذافيره بحيث نكتفي باستبدال كلمة تربية وتعليم بكلمة اقتصاد؟
المنظِّرون لمنظومتنا التربوية يجيبون بنعم. ففي صفحة 9 من الكتاب السنوي 2003 الصادر عن المركز الوطني للوثائق التربوية ، تحت عنوان: الكفاءة التعليمية كُتِب ما يلي: "أصبح التعليم صناعة كبرى في جميع أنحاء العالم ..وأصبحت الكفاءة التعليمية في ارتباطها بالقيمة الاقتصادية للتعليم ذات أهمية كبرى بالنسبة للكفاءة الاقتصادية للدول المختلفة.
وهو بمفهومه الاقتصادي: الحصول على أكبر عائد ممكن بأقل جهد ومال وأسرع وقت ، أو بمعنى آخر الحصول على أكبر قدر من المُخرَجات التعليمية مع أكبر اقتصاد في المدخلات". ومرجع هذا العنوان هو: "تخطيط التعليم واقتصادياته"(12). ثم يذكر أربعة جوانب للكفاءة في التعليم وهي:
§       الكفاءة الداخلية وهي مدى قدرة النظام التعليمي على القيام بالأدوار المنوطة به والتي تشترك فيها جميع عناصر العملية التربوية البشرية وغيرها من مناهج وغيرها.
§       الكفاءة الخارجية وهي قدرة النظام التعليمي على تحقيق أهداف المجتمع من خلال ما يقدمه الخِرِّيجون ، وما يثبتون به جدارتهم كمواطنين صالحين ونافعين.
§       الكفاءة الكمية ومؤشرها هو: عدد الناجحين ـ عدد المعيدين ـ عدد المتسربين.
§       الكفاءة النوعية ويُقصَد بها نوعية المتخرِّج. ومؤشرها ليس هو النجاح في الامتحان إنما في نوعية البرامج التي درسها ونوعية المدرِّسين.
ويمكن تلخيص هذه الجوانب في هذه العبارة:
برامج تربوية ذات كفاءة نوعية تسهر على تنفيذها هياكل تربوية ذات كفاءة إدارية وتربوية ، إذا نُفِّذت هذه البرامج بإتقان وفي آجالها ودون مشاكل فإن منتوجها الطبيعي هو تخريج كفاءات بشرية صالحة ونافعة للمجتمع مع نسبة ضئيلة من المتسربين.
فإلى أي مدى يمكن أن تصدق المقولات الاقتصادية على مجال التربية؟
إن المقولات التي قامت عليها النظرة الاقتصادانية للإصلاحات التربوية والتي على أساسها تُقدَّر الكفاءة في هذا الإطار ترجع إلى مبدأين: - مبدأ الاقتصاد في الوقت - مبدأ الاقتصاد في الجهد والمال

à       أولا: مبدأ الاقتصاد في الوقت
إن هذا الأمر مفهوم حينما نتحدث عن عمليات اقتصادية محضة. أي عمليات يمكن للإرادة البشرية وحدها أن تتدخل فيها. مثال ذلك: يمكن لمصنع ما أن يرفع من كفاءته إذا استبدل تجهيزات ووسائل جديدة متطورة بأخرى قديمة أقل تطورا. في هذه الحالة يمكن أن يقلل من التكلفة المالية لأن هذا التجديد يسمح بالتقليص من الأيدي العاملة علاوة على أن المردود سيكون أعلى كميا ونوعيا ، كما يقلل من وقت الإنجاز ، ويمكن كذلك أن يربح الوقت إذا عمل بنظام الدوام المتواصل 24س/24س. ويمكن لمشروع بناء أن ينجز بكفاءة كذلك إذا كانت هيئة الإنجاز مزودة بتجهيزات ووسائل متطورة ، وبأيدي عاملة ذات تأهيل عالي ، وفريق تسيير كفء ، ويعمل بنظام الدوام المتواصل 24س/24س. ويمكن تطبيق هذه المعايير في مجالات أخرى مثل التجارة والنقل والخدمات ، فنقلل من الوقت والجهد والمال ، ونحصل على منتوج وفير وجيد. لكن هل يمكن أن نرفع من كفاءة العمليات التي تخرج عن نطاق تَحَكُّم الإرادة البشرية أو على الأقل لا تتدخل الإرادة البشرية فيها إلا في حدود ضيقة جدا. فهل يمكن أن نرفع مثلا من كفاءة مصانع تخصيب اليورانيوم حسب الرغبات والحاجات ؟ ولو أمكن ذلك لكان بوسع إيران وغيرها من الدول المارقة ، في المنظور الأمريكوصهيوني ، أن تستعجل إنتاج السلاح الرادع لتكف عنها ضغوط أمريكا وعدوانيتَها ؟ ليس في وسع إيران ولا حتى أمريكا أن تقلص من الوقت اللازم لمثل هذه العمليات لأنها لا تتم إلا بعد أن تكون قد نضِجت لخضوعها لقوانين طبيعية لا يمكن لإرادة البشر ولا لقدراتهم ولا لإمكانياتهم ولا لكفاءاتهم أن تتجاوزها ، فقوانين الفيزياء النووية غلاّبة لا تسمح لأي كان باستعجال منتوجاتها قبل أوانها. وكذلك الأمر في قوانين البيولوجيا النباتية والحيوانية. إذ تفرض أن النبات يمر بمراحل حتمية من البذرة إلى الساق فالأوراق فالأزهار فالثمار ، ولكل مرحلة زمن يجب أن تستغرقه. كما تفرض قوانين النشأة أن يمر الكائن البشري بأطوار من نطفة إلى علقة فمضغة مخلّقةٍ وغير مخلّقةٍ فذكرٍ أو أُنْثَى مستقرا في رحم أمه إلى حين مولده ، فأطوار أخرى في دنياه حتى يستقر في قبره. وكل ما يستطيعه الإنسان لتسريع عمليات النمو والتطور في هذه الظواهر الطبيعية أن يوفر الشروط المثالية أو القريبة من المثالية ليكون مردودها عاليا ؛ بيد أنه مهما أوتي من قدرة وإمكانيات وكفاءات فلن يتجاوز الحد الأقصى للتسريع. إذا كانت هي ذي حدود إمكانيات الاقتصاد في الجهد والوقت وربما المال ، في عمليات تتصل بظواهر طبيعية آلية ، فكيف بعمليات تتصل بظواهر نفسية ، علاوة على تعقُّدها فإنها ليست مستقلة عن إرادة الشخص موضوع العملية. وإلاّ فعلينا أن نلغي جميع نظريات علم النفس والتربية ، ونلقي بكتبها في البحر ، لأن نظريات العولمة تغنينا عنها فقد ابتكرت لنا طريقة سحرية بفضلها نحصي المُدْخَلات ونخضعها لعمليات حسابية - وأجهزة الحساب متطورة جدا - فتعطينا مخرجات هي نماذج من المتخرِّجين بمواصفات حسب الطلب. وإذن فإن مفهوم الاقتصاد في العمليات التربوية ينبغي أن لا يستمد من المقولات الاقتصادية ، فهو لا يعني تقليص زمن بناء الفرد وتكوينه ، إنما هو عدم إضاعة الوقت في أمور لا جدوى منها أو في أمور تفوق قدرة التلميذ على استيعابها أو في أمور يتوقف استيعابها على توفر قاعدة معرفية أو تكوينية. أما زمن البناء والتكوين فينبغي أن يكون بالقدر الذي يسمح للتلميذ باكتساب الكفاءات المطلوبة على مَهْلٍ وفي هدوءٍ. وهذا يقتضي تقليص البرامج ، وتقليص ساعات الدراسة ، والتركيز على التطبيقات.
وإذا أجرينا مقارنة بسيطة بين مردود النظام التربوي القديم والنظام التربوي الجديد وما بعد الجديد ، بتحكيم أحد مؤشرات الكفاءة وهو نوعية المتخرِّج أو التلميذ ، نلاحظ: أنه في النظام القديم (الكلاسيكي) كان تلميذ السنة الأولى ابتدائي ، ما أن تنتهي السنة حتى يكون قد تعلم القراءة والكتابة. وما أن ينتهي من المرحلة الابتدائية حتى يكون قد أتقن اللغة الوطنية وتحصّل على قاعدة صلبة في اللغة الأجنبية الأولى وتحصل على قاعدة صلبة في أهم العمليات الرياضية ، وهي الحساب وبعض مبادئ الهندسة . أي أنه أصبح يتقن أساسا كيف يقرأ وكيف يكتب وكيف يحسب. أما في النظام الجديد وما بعد الجديد أي المدرسة الأساسية ، والإصلاحات الجديدة ، فنجد الكثير من التلاميذ ينهون مرحلة الثانوي شبه أميين ، لا يكاد الواحد منهم أن يقرأ نصا من صفحة واحدة إلاّ بمشقة ، ولا يتمكن من تخطي عقبة البكالوريا منذ المحاولة الأولى إلا الممتازون ، أما أصحاب المستويات المتوسطة أو القريبة من الجيد فمحكوم عليهم بالإعادة مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع. فما السر في تراجع مردود النظام التربوي باطراد ؟
السبب في نظري هو أن النظام القديم ، أي ما يوصف بالكلاسيكي ، يقوم على سُنَّةِ التدرُّج حيث يهتم أساسا بتكوين القاعدة الصلبة في كل مادة ، لذلك كانت مواد الدراسة محدودة في المرحلة الابتدائية. وهي مُمَهِّدَةٌ لما يأتي في المرحلة المتوسطة ، وهذه بدورها ممهدة لما يأتي في المرحلة الثانوية. ففي الابتدائي كنا ندرس الحساب وبعض المبادئ البسيطة في الهندسة. وعندما ننتقل إلى المتوسط نكتشف أن هناك مادة جديدة تُسمى الرياضيات. وعندما ننتقل إلى الثانوي نكتشف أن هناك مادة جديدة تُسمى الفيزياء والكيمياء. أما في التغييرات التي جاءت مع المدرسة الأساسية واستَبْقَتْها الإصلاحات الجديدة ، فجاءت البرامج مكثفة منذ السنة الأولى ابتدائي تضم الرياضيات والتكنولوجيا والعلوم..إلخ بالإضافة إلى موضوعات جديدة في مواد قديمة مثل مفاهيم السياسة والقانون في مادة التربية المدنية. ولو كانت الإصلاحات الجديدة هذه جادة فعلا لاستدركت هذا العيب في المدرسة الأساسية لكنها أبقت عليه وتراجعت عما هو إيجابي فيها وهو مساهمتها إلى حد بعيد في تعريب جيل الربع الأخير من القرن العشرين ، فجاءت هذه الإصلاحات لتمهد لسياسة التراجع عن التعريب بفرض الرموز الفرنسية والكتابة من اليسار إلى اليمين في المواد العلمية ، بحجة أنها رموز عالمية وما أوهاها من حجة.

à       ثانيا: مبدأ الاقتصاد في الجهد والمال

إن هذ المبدأ معقول جدا في مجال الحياة الاقتصادية ، لأن منطق الاقتصاد يقضي بالسعي للحصول على أعظم هامش من الربح. وهذا يتحقق بالتقليل من تكاليف الإنتاج ، وذلك بالتقليل من الأيدي العاملة ومن المواد الأولية وغير ذلك من مصاريف. لكن هل هذا هو المنطق السائد في مجال التربية ؟ أم أن العكس هو الصحيح ؟· فهل نطبق في مجال التربية قواعد البناء أم قواعد السوق ؟
إن قواعد البناء تقضي بأن نؤسس قاعدة متينة تتحمل ثقل الطوابق المخطَََّطِ لها. يصدق هذا على بناء الجسور وبناء العمارات وبناء السفن..ويشهد لهذا المبدأ في البناء جبال الثلج العائمة في المحيطات ، حيث أن الجزء الغائر في الأعماق يزيد بحوالي أربعة أضعاف عن الجزء الظاهر على السطح. هذه القواعد مسلماتٌ في مجال الاقتصاد ، وهي كذلك في مجال التربية ، حيث أنها تبني الإنسان على مدى عشريتين على الأقل. أما قواعد السوق فإنها تقضي بإنتاج بضائع بكميات وفيرة بأقل تكلفة. بيد أن ضمان تحقيق هذا الهدف يتوقف على عوامل منها أن تكون وسائل الإنتاج كفأة ؛ وتكون كفأة إذا كانت متينة البناء والتكوين. وهكذا نعود تلقائيا إلى منطق البناء حتى في مجال الاقتصاد المحض. ومن الشواهد المؤيدة له أن من العبارات المألوفة في تقدير مستوى تطور بلد ما اقتصاديا أن يوصف بأنه يملك قاعدة اقتصادية متينة ، أو أنه يتوفر على الهياكل القاعدية.. وهذا هو الجانب المادي المحض ، ويتوفر على كفاءات علمية وخبرة تقنية وأيدي عاملة عالية التأهيل.. وهذا هو الجانب البشري. فإذا كان منطق الاقتصاد يقضي بأن لا تتحقق الكفاءة الاقتصادية إلا إذا كان البناء متينا ، أفلا يكون من الأولى أن لا تتحقق الكفاءة التربوية إلا إذا كان بناء الفرد متينا. وهنا يجب أن نعكس المقولات التي بنيت عليها النظرة الاقتصادانية إلى التربية. وأعني بها: مبدأ الاقتصاد في الوقت ومبدأ الاقتصاد في الجهد والمال. وبمقتضى عكس هذين المبدأين فإنه كلما خصصنا وقتا كافيا للتكوين ، وصرفنا جهدا كبيرا ، وأنفقنا المال بسخاء ، كل هذا بطريقة رشيدة ، كان التكوين متينا(13). ذلك أن التكوين السريع مع التقتير في الإنفاق عليه ، تكوين فاشل. ونتيجته الحتمية هي: إما تسرب أعداد كبيرة من المدرسة، وهؤلاء يحسبون في الخسائر المحضة في الجهد والمال والوقت ، أو إعادة الكثير لعدد من السنوات، وهؤلاء يحسبون في ضُعْفِ المردود التربوي. وفي كلتا الحالتين فإن النتائج عكسية ؛ لأننا لن نربح الوقت بل نضيع أوقات ، ولن نوفر الجهد والمال لأننا سنبذل ، رغما عنا ، جهدا مضاعفا ومالا كثيرا ومع ذلك نحصل على نتائج غير مرضية.
وهذا هو الحاصل في واقع التربية عندنا ، للأسف ، مع أن البلد تزخر بالطاقات البشرية ، لكنها معطَّلة وتعاني البطالة ، ولا تنقصها الإمكانيات  المادية ، لكنها مهدرة ، إذ تصرف في توافه الأمور. وعلى سبيل المثال ما زالت المؤسسات التربوية تعاني من الاكتظاظ حتى أصبح وجود أقسام متنقلة أمرا مألوفا ؛ والسبب أن عدد المتمدرسين يزيد باطراد دون أن يواكبه زيادة في الهياكل التربوية ؛ وأصبحت زيادة الحجم الساعي للأستاذ عن النصاب القانوني ، أمرا مألوفا كذلك ، وأحيانا يزيد عدد الساعات الإضافية عن الحد المسموح به قانونا ، وفي هذه الحالة فإنه يعملها دون مقابل ؛ والسبب عدم كفاية الأساتذة ومع ذلك لا تُمنح مناصب شغل جديدة رغم أن الأساتذة البطالين لا يحصون عددا.
ومن الشواهد التي توضح هذا المعنى نتائج الامتحانات. فقد أصبح من المعتاد أن تكون النسب متدنية حتى أننا نغتبط إذا كانت نسبة النجاح في شهادة التعليم المتوسط/الأساسي سابقا ، تتجاوز الخمسين بالمائة ، ونغتبط أكثر إذا كانت نسبة النجاح في البكالوريا تقترب من الخمسين. ولقد صار مألوفا أن تعيد نسبة كبيرة من التلاميذ سنوات الامتحانات الفاصلة مَثْنَى وثُلاثَ ورُباع.

هذه النتائج التي نلاحظها من موقعنا كمُرَبّين ، إذ نستند إليها في التنبيه إلى ضعف المردود التربوي ، إنما يبقى رأينا فيها مجرد انطباع ، في غياب إحصاءات دقيقة وتحليلات موضوعية لها. وبهذه المناسبة فإني أوجه نداء إلى علماء الاجتماع والباحثين في هذا المجال إلى أن يُجْروا دراسات ميدانية ، في المدارس ومع المعلمين والأساتذة المباشرين للعملية التربوية ، ومع المساعدين التربويين ، ومع مديري المدارس ، ومع الأولياء ، فإن المجال فارغ من هذا النوع من البحوث ، مع أنه زاخر بالظواهر التي تحتاج إلى بحث ، وثريٌّ بالحقائق التي تؤكد الفرضيات والاستنتاجات أو تبطلها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق